الإصلاح الإنجيلي اللوثري وعقيدة التبرير بالإيمان


الإصلاح الإنجيلي اللوثري وعقيدة التبرير بالإيمان

نحتفل في الحادي والثلاثين من تشرين الأول من كل عام بذكرى الإصلاح الكنسيّ الذي باشر به المصلح الألماني الإنجيلي مارتن لوثر. واليوم هي الذكرى 499. يوجد اليوم أكثر من 900 مليون تابع للإصلاح (منهم 80 مليون لوثري أعضاء الاتحاد اللوثري العالمي). وقد يتسائل البعض: لماذا الحادي والثلاثين من تشرين الأول؟ إنه اليوم الذي قام به لوثر بتعليق حججه ال 95 الشهيرة على باب كنيسة فيتنبرج، محتجاً على ما كان يُعرف حينها ب "الغفرانات" أو صكوك الغفران، ومجادلاً بأننا لا يمكننا شراء الخلاص، إذ أن الخلاص هو هبة من الله للقلب التائب.

بُني الإصلاح على ثلاث ركائز رئيسية: (1) سلطان الكتاب المقدس فوق أي سلطة عندما يتعلق الأمر بالعقيدة والأخلاقيات المسيحية، هذا هو دستورنا ومرجعيتنا فوق أو مرجعية أخرى (2) كهنوت جميع المعمدين (لهذا مجمع الكنيسة اللوثرية مثلاً لا يتكون فقط من القسس، بل الأغلبية من غير المرسومين). (3) إن الإنسان يتبرر أمام الله بالإيمان وحده وليس بالأعمال الصالحة – وهذه النقطة الأخيرة هي موضوع هذا المقال.

إذاً دعونا نتأمل بموضوع التبرير بالإيمان، معتمدين على رسالة بولس إلى أهل رومية والفصل الثالث. سنقوم أولاً بالتأمل في النص ومعنى التبرير بالإيمان بحسب ما كتب بولس، ثم سنتأمل بحياة لوثر وتشديده على العقيدة، ومن ثمّ سننتقل إلى عصرنا اليوم فنرى أهمية التبرير بالإيمان في حياتنا اليوم.

التبرير بالإيمان في رسالة رومية
وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ. فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَّلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ. إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ. (رومية 21:3-31)

كان بولس قبل الإيمان فريسيّاً، وهي طائفة يهودية دينية  متزمتة. فآمن بأن الأمانة نحو الناموس أو طاعة الناموس هي المفتاح لتدخّل الله في التاريخ وإعادة مجد إسرائيل بحسب النبوات. لقد آمن الفريسيون أن الله في عهد مع اليهود، وأن علامة أو ما يميّز شعب العهد هو الناموس. ولكي يتأكد الفريسيون من طاعتهم للناموس وبحرفية، أضافوا تعليقاتهم وتحليلاتهم عليه، فكانت النتيجة 613 فريضة "إعمل" و365 فريضة "لا تعمل". هناك أمور حلال، وأخرى حرامّ. هناك عمل حلال، وآخر حرام. أكل حلال، وأكل حرام. وحتى بشر حلال وبشر حرام. فقد اعتبر الفريسيون الأمم نجسين وخارج حظيرة الله. فلم يكن مسموحاً حتى دخول بيوتهم خوفاً من أن يتنجسوا!

وهنا المهم: آمن الفريسيون أنه في نهاية الأيام سيدين الله كل الشعوب الأخرى، ويبرر شعبه (يعلن برائتهم!) إذا ما أطاعوا الناموس. من هنا كلمة تبرير: "إعلان براءة".

أما بعد الإيمان، فكتب بولس عكس ذلك تماماً! المسيح غيّر المعادلة. فمثلاً جادل بولس ودافع عن حقّ الأمم بعد الإيمان وعن مساواتهم داخل حظيرة الله. وليس هذا فقط، بل أصر أنه: "بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ." بل "الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ".

ما المقصود بالتبرير؟ الكلمة اليونانية معناها إعلان براءة ضمن سياق قانوني. هنا نحن نتكلم عن حالة: حالة براءة. برّ الله معناها البرّ الذي يمنحه الله، أو إعلان البراءة الذي يعلنه الله. يمكننا أيضاً تفسير التبرير على أنه إعلان الانتماء لشعب الله. أي: عند الدينونة، يميّز الله شعبه (يبررهم) عن باقي الشعوب.

هنا الرسالة الرئيسية: بالاتكال على طاعة الناموس، لا يمكن لأي إنسان أن يحصل على البراءة من الله. التبرير بالإيمان معناه أن الإنسان يحصل على البراءة من الله وعلى برّ المسيح بالإيمان بالمسيح وعمله على الصليب. ينال الإنسان التبرير بالتسليم الكامل لله والإقرار بالعجز أمامه! هذا البر هو بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ! وهنا المفتاح: يمنح الله هذه البراءة بالإيمان بيسوع المسيح. وهذا التبرير بالإيمان يصلح لليهودي والأممي على حدٍّ سواء. علامة الوجود في عائلة الله (التبرير) هو الآن الإيمان بالمسيح وليس حفظ الناموس!

ويشدد بولس على مجانية التبرير! الجميع، يهود وأمم خطاة بنفس المقدار، والجميع كما يقول "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ". أي أننا لا نستحق. التبرير والفداء والخلاص أمور أخذناها نحن بالمجان. أي أننا لم ندفع مقابل (طاعة الناموس مثلاً) لنوال التبرير. يُظهر هذا الأمر رحمة الله ومحبته لبني البشر. لو لم يقم الله بذلك لما خلص أحد! لا يمكننا استحقاق الخلاص، بل فقط قبول الخلاص.

مارتن لوثر والتبرير بالإيمان
ننتقل الآن إلى مارتن لوثر، فهو من أعاد اكتشاف هذه العقيدة وأعادها إلى مركز وجوهر الإيمان المسيحي. لوثر لم يخترع شيئاً جديداً، فهذه العقيدة كانت موجودة عند الآباء، ولكنها أُهملت مع الزمن وحتى شوُهت في بعض الأزمنة، لأن الكنيسة أرادت احتكار الخلاص.

كان لوثر شاباً في مقتبل العمر، ينتظره مستقبلٌ زاهر في دراسة الحقوق. أبوه تعب كثيراً ليوفر له فرصة الدراسة. وفي أحد الأيام وبينما كان مسافراً على حصانه، حصلت عاصفة رعدية قوية جعلت يعتقد أنه سيموت. في خوفه صلّى إلى الله ونذر نفسه للكهنوت في حال نجاته. كانت نظرته إلى الله نظرة عبد يخاف سيّده. اعتقد أن الله يطارده ويريد أن ينال منه. كان يشعر أنه مقصّر بحق الله، وأن الله يبحث عنه ليدينه. من خوفه اتجه إلى الكهنوت (عكس رغبة والده).

لم يتغيّر حال لوثر بعد اتجاهه للكهنوت. كراهبٍ كان يخاف من الله واستمر يشعر بأن الله يطارده! كتب في مذكراته:
"تعودت أن أكون منسحق القلب وأجهز قائمة بخطاياي. اعترفت بها المرة بعد المرة بكل حرص، ونفذّت العقوبات الدينية، ومع ذلك ظلّ ضميري يدق ويقلقني ويخبرني أنت قصرت هناك ولم تندم بما يكفي ... "
"لكن أنا الذي عشت على كل حالٍ بلا لومٍ كراهب شعرت بكوني خاطئاً قدام الله بضميرٍ مضطربٍ جداً ... أنا لم أحب، لا بل كرهتُ الله البار الذي يعاقب الخطاة،  وفي صمتٍ تمردتُ على الله ... (الذي) عن طريق الإنجيل يهددنا ببره وغضبه ..."

هكذا كانت نظرة لوثر إلى الله! واليوم يعيش الكثيرون معتقدين أن الله يعاملنا بنفس الطريقة، أي أنّهُ إلهٌ ديّانٌ يعاقبنا على أخطائنا وينتظرنا لنقع كي يأتي بالدينونة. كثير من الناس يخافون من الله إذ أنهم يعرفون مقدار خطاياهم، ويعتقدون أن الله سيجازيهم عن خطاياهم الكبيرة والصغيرة. يعيش الكثيرون بضمير معذّب خوفاً من هذا الإله – بمنطق الحلال والحرام. (وكأن الله يلاحقنا على أصغر الأمور). هذا فكر مشوه عن الله. هذا فكر بشري.

تغيرت حياة لوثر عند دراسته لرسالة رومية (وأيضاً القديس أوغسطينوس). بدأ يفهم معنى أن الله محبة ونعمة. وأن الله يركض نحوه ويبحث عنه لا ليدينه بل ليمنحه الخلاص. وأدرك لوثر أنه ليس هو من يبحث عن الله، بل الله يبحث عنه.
وتكلم لوثر عن البر الذي يمنحه الله بالإيمان للإنسان، مستشهداً برسالة رومية. وتحدث عما سماه هو المبادلة الرائعة:  
"هذا هو السرّ الغنيّ بالنعمة الإلهية للخطاة: في هذه المبادلة الرائعة لم تعد خطايانا لنا بل أصبحت للمسيح، ولم يعد برّ المسيح له بل أصبح لنا. لقد أخلى نفسه من البرّ ليلبسنا إياه، ويملأنا منه".

أي أن المسيح نزع برّه وألبسنا هذا البرّ. ونزع عنا خطايانا ولبسها هو على الصليب!

وكتب لوثر الصلاة التالية معبراً عن هذه المبادلة:
"أيّها الربّ يسوع المسيح! أنت هو برّي، أمّا أنا فإنيّ خطيّتُك. لقد حملتَ ما هو لي، وأعطيتني ما هو لك. ولأجل هذا التّبادل أقدّم لك التسبيحَ والشكرَ."

فهم مارتن لوثر في النهاية هذا الأمر، وتخلّص من عذاب ضميره. عرف أن يتمتع بغفران الله. فقال:
"عندما يلقي الشيطان بخطاياك أمامك ويعلن بأنك تستحق الموت والهلاك، قل له هذا: أنا أعترف بأنني أستحق الموت والهلاك، ولكن لا يوجد مشكلة، إذ أعرف من تألم نيابة عني. إسمه يسوع المسيح، ابن الله، وحيث يكون سأكون أنا أيضاً".

هذا هو الإنجيل. هذه هي الأخبار السارة. ليس أننا بلا خطية، بل أن الله يبررنا في المسيح. البشارة السارة هي أن الله يبررنا مقابل الإيمان والتسليم. في هذه الرسالة حريّة! وفيها راحة للضمير وسلام القلب. ولنا التأكيد والضمان أنه لا دينونة للذين هم في المسيح يسوع.

التبرير بالإيمان اليوم
اعتبر لوثر ومصلحون آخرون عقيدة تبرير الخطاة على أنها "البند الأول والرئيس"و"المرشد والحَكَم فوق جميع أجزاء العقيدة المسيحية". ولأجل هذا اعتبرت هذه قضية جوهرية في الحوار اللوثري-الكاثوليكي. ونشكر الله أنه في العام 1999 اتفقت الكنيستان في أولى خطوات المصالحة على هذه العقيدة بالذات، وأقرتا معاً:
"بالنعمة وحدها، بالإيمان بعمل المسيح الخلاصيّ، وليس بسبب أي استحقاق فينا، قَبِلنا اللهُ وأعطانا الروح القدس الذي يجدّد قلوبنا فيما يقوينا ويدعونا إلى الأعمال الصالحة... إن رسالة التبرير...تعلّمنا أننا بوصفنا خطاة فإن حياتنا الجديدة مَدينة فقط للرحمة التي تغفر وتجدّد والتي يمنحنا إياها الله كعطية نتلقاها بالإيمان، ولا يمكن أن نستحقها بأي وسيلة".

ما أحوجنا اليوم لهذه الرسالة ولقبولها بشكل شخصي. ما أحوجنا اليوم أن نقول مع لوثر: " أنا أعترف بأنني أستحق الموت والهلاك، ولكن لا يوجد مشكلة، إذ أعرف من تألم نيابة عني. اسمه يسوع المسيح، ابن الله، وحيث يكون سأكون أنا أيضاً".


ما أحوجنا إلى هذه الرسالة، أننا بأعمالنا لا يمكننا أبداً أن ننال الغفران، بل فقط بالاتكال على رحمة الله ونعمته. ما أحوجنا إلى أن نعيد اكتشاف هذه العقيدة الجوهرية: مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. آمين. 

Comments