منطق المحبة أم منطق الانتقام؟ إغلب الشرّ بالخير



منطق المحبة أم منطق الانتقام؟
إغلب الشرّ بالخير
رسالة بولس إلى أهل رومية 17:12-21
لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ. إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:«لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ.
عندما قراءة هذه الكلمات للمرة الأولى، شعرت بمدى علاقتها بالواقع الذي نمرّ به. ولكن – أعترف هنا – أنه عندما تعمقتُ في النص شعرت بعدم راحة. كيف نجازي الشر بالخير عندما يكون شكل الشر قتلٌ بلا رحمة للأطفال؟ كيف نسالم من يحاصرنا ويذلّنا ونكون نحن دوماً الملامون؟ من منا لم يرَ الصور المؤلمة من غزة في الأسبوع الماضي؟ صور وواقع لا يوجد كلمات تستطيع وصفه. الأب الذي يبكي طفله ويصرخ كي يعود طفله إلى الحياة. تخيلت نفسي مكانه للحظة، وشعرت بالغضب والقهر الشديد. إلى متى هذا الظلم؟ ثم افتكرت... ماذا أعظ في هذه الظروف؟ كيف أعظ لهذا الأب "َإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ"؟
يتحدى بولس الرسول في كلمات اليوم ما سأسميه منطق الانتقام! منطق "العين بالعين والسن بالسن!" المنطق الذي يقول: سآخذ حقي بيدي! لا نعرف إن كان بولس الرسول على اطلاع على موعظة المسيح على الجبل، والتي نسمع صداها في قراءة اليوم. هناك علّمنا المسيح: "أحبوا أعدائكم"... "من ضربك على خدك الأيمن أدر له الآخر". هناك بكل تأكيد تشابه كبير بين النصّين.
وجّه بولس رسالته هذه إلى الكنيسة في روما، وهم من أوائل المؤمنين. نحن نعرف أن المسيحيين الأوائل واجهوا ظروفاً صعبةً في البداية، من رفض وضغوطاتٍ وحتى اضطهاد دمويّ. أراد بولس من المسيحيين أن يكونوا تلاميذاً بالحقيقية وأن يكونوا متميزين، ويعيشوا بمنطق يختلف عن منطق العالم.
يقول بولس  بكلّ وضوح: لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ، وأيضاً لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ. لماذا؟ لنتأمل سوياً في منطق الانتقام.
قال مارتن لوثر كنج، الناشط المسيحي الشهير الذي ساهم في أخذ الأفارقة الأمريكان حقوقهم في الولايات المتحدة: "عين بعينٌ سيتركنا جميعاً عميان!" لا نهاية لمنطق الانتقام سوى عندما نزول ونهلك جميعاً! نحن نرى منطق الانتقام بأعيننا اليوم: الكل يردّ على الآخر بحجة: "أنت البادئ" وطبعاً، "البادئ أظلم" وهذا يعني أن ليّ الحق بالرد كما أريد وكما أرى مناسباً.
الكارثة الحقيقية في منطق الانتقام تكون عندما لا يتكافأ الطرفان في القوة – وهو نراه اليوم في أرضنا. عينٌ بعينٍ أصبحت عينٌ بعشرة أرواح! في منطق الانتقام يخسر دائماً الضعيف، والضحية هم الأطفال والأبرياء. (على فكرة، لو انعكست موازين القوى اليوم، وامتلك الفلسطينيون في غزة الأسلحة الفتاكة، هل سيظهرون رحمة؟ - مجرّد سؤال) الفكرة هنا أنه لا رابح في منطق الانتقام.
ماذا يقترح علينا بولس الرسول في المقابل؟ هل من رسالة لنا اليوم من كلمة الله؟ هل من رسالة من كلمة الله لشعبنا؟ أنا أومن أن الإجابة هي نعم، ولكن يجب أولاً أن نتحاشى السطحية في فهم كلمة الله وهذا النص. لنتأمل سويّة وبعمقٍ فيما تعلمه لنا هذه الفقرة اليوم، عمّا سأسميه منطق المحبة.
أولاً: لا يعلمنا بولس السلبية أو الحياد، أو ألا يكون لنا موقفٌ وحتى ردٌ على الظلم من حولنا. الفكرة هنا ألا نجازي الشر بالشر. اهتمام بولس الرئيسي هو في طريقة ردنا على الشر: لا يمكن لتلميذ المسيح استخدام الشر، حتى لمجازاة الشر. إذاً اهتمام بولس هو بوسيلة الرد على الشر، وهو لا يرفض من حيث المبدأ – بل يشجّع كما سنرى – الردّ على الظلم.
ثانياً: لا ينكر بولس عدالة الله. الله سيجازي الشر. لا حظوا ما يقول الرسول: "لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ" (اقتباس من تثنية 35:32). أن لا ننتقم نحن لا يعني أن نتجاهل الشر أو الظلم، ومن المؤكد أن هذا لا يعني أن الله يتجاهل الشر أو الظلم. على العكس: سوف ينتقم! هذه كلمات قوية، أشعر أننا كمسيحيين ننسى كثيراً أنها موجودة في كتابنا. يعلمنا بولس ألا ننتقم بالتحديد لأن الله هو من سيجازي الشرير.
أعرف صعوبة هذا الأمر اليوم، إذ يبدو وكأن الظلم والشر في أرضنا لا نهاية لهما. ولكن ليكن لنا إيمانٌ بإله العدالة والرحمة. الله يبكي على حال أرضنا اليوم. إذا كنا نحن البشر نتألم، فكم بالحري الله عندما يري الأطفال يموتون. ولكن ليكن لنا إيمان. يقول سفر الجامعة: "إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا" (جامعة 8:5). "لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ".
ثالثاً: يعلمنا بولس أن الموقف المسيحي هو ليس الحياد، أو مجازاة الشر بالشر، بل هو تحدي الشر والظلم بالخير: فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ.
بولس هنا يتحدانا أن نجرّب منطق المحبة. منطق المحبة الذي يرى صورة الله في الآخر، حتى العدو. منطق المحبة الذي يسعى للتواصل من الآخر من منطق الإنسانية والمساواة من حيث أننا كلنا مخلوقون على صورة الله.
فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. معقول؟ أيصلح هذا المنطق في عالمنا اليوم. ولكن فكروا معي كما يقول بولس في ردّ فعل العدو عندما نعطيه الطعام والماء. هل يأخذ – فيُجبر حينها على اعتبارنا أصدقاء لا أعداء؟ هنا التحدي، كما قال بولس: إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. أذكر جيداً في الانتفاضة الأولى في بيت ساحور، عندما كانت قوات الاحتلال تُخرج الشباب من بيوتهم لتنظيف الشوارع أو الجدران، كانت نساء بيت ساحور تقدّم إلى الجنود عصيراً بارداً في حرّ النهار – لا كُرهاً بل طوعاً.  كان هذا الأمر يسبب صدمةً للجنود، وخجلاً لا بل وعاراً. كانت النساء بهذا المنطق تتحدى إنسانية الجندي، لينظر إلى الفلسطيني كإنسان وصديق، لا كعدو يجب قمعه.
أتذكر هنا الموعظة على الجبل، عندما علمنا يسوع المواجهة لا الهرب كما يعتقد البعض. عندما نجُبر على حمل سلاح الجندي الرومانيّ لميل، نختار أن نحمل السلاح – بحريتنا لا إكراهاً. هنا نتحدى الجندي: أيقبل فنصبح أصدقاء؟ أو يرفض ليدرك أننا السادة الحقيقيين!
اسمحوا لي أن أقرأ على مسامعكم من وثيقة وقفة حقّ كايروس فلسطين، كلمات أشعر أن تعكس جوهر رسالة اليوم: 

"ونقول إنّ خيارنا المسيحيّ في وجه الاحتلال الإسرائيلي هو المقاومة. فالمقاومة حقّ وواجب على المسيحيّ . ولكنها المقاومة بحسب منطق المحبّة، فهي مقاومة مبدعة، أي أنّها تجد الطرق الإنسانية التي تخاطب إنسانيّة العدوّ نفسه. وإنّ رؤية صورة ﷲ في وجه العدوّ نفسه واتّخاذ مواقف المقاومة في ضوء هذه الرؤية هي الطريقة الفعّالة لوقف الظلم وإجبار الظالم على وضع حدﱟ لاعتدائه، وللوصول إلى الهدف المنشود... لقد ترك السيد المسيح لنا مثالاً لنقتدي به. علينا أن نقاوم الشرّ، ولكنه علّمنا أن لا نقاوم الشرّ بالشرّ. إنّها وصيّة صعبة، ولا سيّما إذا أصرﱠ العدوّ على تجبّره وعلى إنكار حقّنا في البقاء هنا. هي وصيّة صعبة. ولكنّها الوصيّة."

هل يمكن هذا اليوم؟ ما أحوج بلادنا لمنطق المحبة! تدعونا كلمة الله لغلب الشر – مقاومة الشر – لكن بالخير. بالخير. هذا هو منطق المحبة. لنتذكر أن منطق المحبة هو منطق الله. الله محبة! عندما كنا في خطايانا وبحسب الكتاب في عداوة مع الله، قابلنا الله بالمحبة، المحبة المضحية، محبة الصليب. لقد رأينا نتيجة منطق الانتقام.  يا ليتنا نعطي منطق المحبة الفرصة في بلادنا.
لتكن صلاتنا اليوم: أنشر يا ربّ منطق المحبة في أرضنا، وابدأ منا. لتتدخّل أيها العالي في أرضنا، وانه منطق الانتقام. أيها العالي حارب الشر والظلم في أرضنا، كن أنت السند والعزاء لكل متألم وجريح...
وسلام الله الذي يفوق كل عقلٍ يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح يسوع، آمين.

Comments